فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى، إذ يتناول ما دونه فتعميم اللفظ أولى، وأما هذه الواو التي في قوله: {والناهون} ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إذ هما من غير قبيل الصفات الأول.
قال القاضي أبو محمد: لأن الأول فيما يخص المرء، وهاتان بينه وبين غيره، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما، وقيل هي زائدة وهذا قول ضعيف لا معنى له، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة ومن هذا قوله في أبواب الجنة {وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] وقوله: {وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22] ومن هذا قوله: {ثيبات وأبكارًا} [التحريم: 5].
قال القاضي أبو محمد: على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية، لأنها فرقت بين فصلين يعمان بمجموعهما جميع النساء، ولا يصح أن يكون {ثيبات أبكارًا} [التحريم: 5]، فهي فاصلة ضرورة، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه، في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله: {وفتحت أبوابها} [الزمر: 73]، وأنكرها أبو علي، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة، فهكذا هي لغتهم، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو، وقوله: {والحافظون لحدود لله} لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن، وقوله: {وبشر المؤمنين} قيل هو لفظ عام أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعًا بالخير من الله، وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {التائبون} سبب نزولها أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول الله، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية؟ قاله ابن عباس.
قال الزجاج: يصلح الرفع هاهنا على وجوه:
أحدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون.
ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون؛ فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفعٌ بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذُكر معهم لهم الجنة أيضًا وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد.
وللمفسرين في قوله: {التائبون} قولان:
أحدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي.
والثاني: الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر.
وفي قوله: {العابدون} ثلاثة أقوال:
أحدها: المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: الموحِّدون، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: {الحامدون} قال قتادة: يحمدون الله على كل حال.
وفي السائحين أربعة أقوال:
أحدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين.
قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحًا تشبيهًا بالسائح، لأن السائح لا زاد معه؛ والعرب تقول للفرس إذا كان قائمًا لا علف بين يديه: صائم، وذلك أن له قُوتين، غدوة وعشية، فشُبه به صيام الآدمي لتسحُّره وإفطاره.
والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء.
والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة.
والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: {الراكعون الساجدون} يعني في الصلاة.
{الآمرون بالمعروف} وهو طاعة الله.
{والناهون عن المنكر} وهو معصية الله.
فإن قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: {والناهون}؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السبعة، كقوله: {وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22] وقوِله في صفة الجنة: {وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] ذكره جماعة من المفسرين.
والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات.
قوله تعالى: {والحافظون لحدود الله} قال الحسن: القائمون بأمر الله. اهـ.

.قال القرطبي:

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {التائبون العابدون} التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله.
والتائب هو الراجع.
والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين.
{العابدون} أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه.
{الحامدون} أي الرّاضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال.
{السائحون} الصائمون؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما.
ومنه قوله تعالى: {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5].
وقال سفيان بن عُيينة: إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلَّها من المطعم والمشرب والمنكح.
وقال أبو طالب:
وبالسائحين لا يذوقون قطرة ** لربهم والذاكرات العوامل

وقال آخر:
برَّا يصلِّي ليله ونهاره ** يَظَلّ كثير الذكر لله سائحًا

وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيامُ؛ أسندهُ الطبري.
ورواه أبو هريرة مرفوعًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سياحة أمتي الصيام» قال الزجاج: ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون الفرض.
وقد قيل: إنهم الذين يديمون الصيام.
وقال عطاء: السائحون المجاهدون.
وروى أبو أُمامة أن رجلًا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» صححه أبو محمد عبد الحق.
وقيل: السائحون المهاجرون؛ قاله عبد الرحمن بن زيد.
وقيل: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم؛ قاله عكرمة.
وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته، وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه؛ حكاه النقاش.
وحكي أن بعض العُبّاد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر؛ فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} [غافر: 71] وذكرت كيف أتلقى الغُلّ وبقيت ليلي في ذلك أجمع.
قلت: لفظ س ي ح يدل على صحة هذه الأقوال؛ فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح.
والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا.
وفي الحديث: «إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي» ويروى «صياحين» بالصاد، من الصياح.
{الراكعون الساجدون} يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها.
{الآمرون بالمعروف} أي بالسنة، وقيل: بالإيمان.
{والناهون عَنِ المنكر} قيل: عن البِدعة.
وقيل: عن الكفر وقيل: هو عموم في كل معروف ومنكر.
{والحافظون لِحُدُودِ الله} أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه.
الثانية واختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل هي متصلة بما قبلُ أو منفصلة؛ فقال جماعة: الآية الأُولى مستقلة بنفسها؛ يقع تحت تلك المبايعة كلُّ موحِّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها.
وقالت فرقة: هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان؛ فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله؛ قاله الضحاك.
قال ابن عطية: وهذا القول تحريج وتضييق، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكَمَلة من المؤمنين، ذكرها الله ليستبِق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة.
وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} رفع بالابتداء وخبره مضمر؛ أي التائبون العابدون إلى آخر الآية لهم الجنة أيضًا وإن لم يجاهدوا، إذا لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد؛ لأن بعض المسلمين يجزِي عن بعض في الجهاد.
واختار هذا القول القشيريّ وقال: وهذا حسن؛ إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لكان الوعد خاصًا للمجاهدين.
وفي مصحف عبد الله: {التائِبين العابدين} إلى آخرها؛ ولذلك وجهان: أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع.
والثاني النصب على المدح.
الثالثة واختلف العلماء في الواو في قوله: {والناهون عَنِ المنكر} فقيل: دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى: {حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} [غافر: 1- 3] فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها.
وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يُطلب لمثله حكمة ولا علّة.
وقيل: دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منهما مفردًا.
وكذلك قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5].
ودخلت في قوله: {والحافظون} لقربه من المعطوف.
وقد قيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له.
وقيل: هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح.
وكذلك قالوا في قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}.
وقولهِ في أبواب الجنة: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وقوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقد ذكرها ابن خَالَوَيْه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وأنكرها أبو علي.
قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأُستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقيّ، وكان ممن استوطن غَرْناطة وأقرأ فيها في مدّة ابن حَبُوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب؛ من شأنهم أن يقولوا إذا عَدّوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة؛ وهكذا هي لغتهم.
ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو.
قلت: هي لغة قريش.
وسيأتي بيانه ونقضه في سورة الكهف إن شاء الله تعالى وفي الزمر أيضًا بحول الله تعالى. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {التائبون}
قال الفراء: استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى وانقطاع الكلام.
وقال الزجاج: التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر.
والمعنى: التائبون إلى آخره لهم الجنة أيضًا وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين بترك الجهاد وهذا وجه حسن فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين.
كما قال تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} ومن جعله تابعًا للأول، كان الوعد بالجنة خاصًا بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات، فيكون رفع التائبون على المدح يعني المؤمنين المذكورين في قوله: {إن الله اشترى}.